سورة الكهف - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)}
{وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ} أحياء مضروبًا على آذانهم {ثالث مِاْئَةِ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} وهي جملة مستأنفة مبينة كما قال مجاهد لما أجمل في قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] واختار ذلك غير واحد، قال في الكشف: فعلى هذا قوله تعالى:


{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)}
{قُلِ الله أَعْلَمُ بما لَبِثُواْ} تقرير لكون المدة المضروب فيها على آذانهم هي هذه المدة كأنه قيل قل الله أعلم بما لبثوا وقد أعلم فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك قط، وفائدة تأخير البيان التنبيه على أنهم تنازعوا في ذلك أيضًا لذكره عقيب اختلافهم في عدة أشخاصهم وليكون التذييل بقل الله أعلم محاكيًا للتذييل بقوله سبحانه: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} [الكهف: 22] وللدلالة على أنه من الغيب الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام ليكون معجزًا له، ولو قيل: فضربنا على آذانهم سنين عددًا وأتى به مبينًا أولًا لم يكن فيه هذه الدلالة البتة، فهذه عدة فوائد والأصل الأخيرة انتهى، ويحتاج على هذا إلى بيان وجه العدول عن المتبادر وهو ثلثمائة وتسع سنين مع أنه أخصر وأظهر فقيل هو الإشارة إلى أنها ثلثمائة بحساب أهل الكتاب واعتبار السنة الشمسية وثلثمائة وتسع بحساب العرب واعتبار السنة القمرية فالتسع مقدار التفاوت، وقد نقله بعضهم عن علي كرم الله تعالى وجهه.
واعترض بأن دلالة اللفظ على ما ذكر غير ظاهرة مع أنه لا يوافق ما عليه الحساب والمنجمون كما قاله الإمام لأن السنة الشمسية ثلثمائة وخمس وستون يومًا وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الإمام أن السنة الشمسية ثلثمائة وخمس وستون يومًا وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الرصد إلا يلخاني والسنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسون يومًا وثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة فيكون التفاوت بينهما عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة ودقيقة واحدة وإذا كان هذا تفاوت سنة كان تفاوت مائة ألف يوم وسبعة وثمانين يومًا وثلاثة عشرة ساعة وأربع دقائق وهي ثلاثة سنين وأربعة وعشرون يومًا وإحدى عشرة ساعة وست عشرة دقيقة فيكون تفاوت ثلثمائة سنة تسع سنين وثلاثًا وسبعين يومًا وتسع ساعات وثمانيًا وأربعين دقيقة ولذا قيل إن روايته عن علي كرم الله تعالى وجهه لم تثبت. وبحث فيه الخفاجي بأن وجه الدلالة فيه ظاهر لأن المعنى لبثوا ثلثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علموا قومك السؤال عن شأنهم وتسعًا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك، والعدول عن الظاهر يشعر به، ودعوى أن التفاوت تسع سنين مبنية على التقريب لأن الزائد لم يبلغ نصف سنة بل ولا فصلًا من فصولها فلم يعبأ به، وكون التفاوت تسعًا تقريبًا جار على سائر الأقوال في مقدار السنة الشمسية والسنة القمرية إذ التفاوت في سائرها لا يكاد يبلغ ربعًا فضلًا عن نصف، وقال الطيبي في توجيه العدول: إنه يمكن أن يقال: لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قربوا من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم نائمين تسع سنين.
وتعقب بأن هذا يقتضي أن يكون المراد وازدادوا نومًا أي قوي نومهم في تسع سنين ولا يخفى ما فيه.
وقال أيضًا: يجوز أن يكون أهل الكتاب قد اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فجاء قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ} [الكهف: 25] إلخ رافعًا للاختلاف مبينًا للحق؛ ويكون {وازدادوا تِسْعًا} [الكهف: 25] تقريرًا ودفعًا للاحتمال نظيرًا لاستثناء في قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ولا يخلو عن حسن.
وقيل إنهم انتبهوا قليلًا ثم ردوا إلى حالتهم الأولى فلذا ذكر الازدياد وهو الذي يتقضيه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة المار في قوله تعالى: {وَنُقَلّبُهُمْ} [الكهف: 18] إلخ وهو فيما أرى أقرب مما تقدم من حديث السنين الشمسية والقمرية.
وقال جمع: إن الجملة من كلام أهل الكتاب فهي من مقول: {سَيَقُولُونَ} [الكهف: 22] السابق وما بينهما اعتراض ونسب ذلك إلى ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوى أبعد ما بين السماء والأرض ثم تلا {وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ} الآية ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا: ثلثمائة وتسع سنين فقال: لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله تعالى: {قُلِ الله أَعْلَمُ بما لَبِثُواْ} ولكنه سبحانه حكى مقالة القوم فقال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثلاثة} إلى قوله تعالى: {رَجْمًا بالغيب} [الكهف: 22] فأخبر أنهم لا يعلمون وقال: سيقولون لبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعًا ولعل هذا لا يصح عن الحبر رضي الله تعالى عنه فقد صح عنه القول بأن عدة أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم مع أنه تعالى عقب القول بذلك بقوله سبحانه: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} [الكهف: 22] ولا فرق بينه وبين قوله تعالى: {قُلِ الله أَعْلَمُ بما لَبِثُواْ} فلم دل هذا على الرد ولم يدل ذاك.
نعم قرأ ابن مسعود {قَالُواْ لَبِثُواْ كَهْفِهِمْ} وهو يقتضي أن يكون من كلام الخائضين في شأنهم إلا أن التعقيب بقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْلَمُ بما لَبِثُواْ} كتعقيب القول الثالث في العدة بما سمعت في عدم الدلالة على الرد.
والظاهر أن ضمير {وازدادوا} [الكهف: 25] على هذا القول لأصحاب الكهف كما أنه كذلك على القول السابق، وقال الخفاجي: إن الضمير عليه لأهل الكتاب بخلافه على الأول، ويظهر فيه وجه العدول عن ثلثمائة وتسع سنين لأن بعضهم قال: لبثوا ثلثمائة وبعضهم قال: إنه أزيد بتسعة اه. ولا يخفى ما فيه، وعلى القولين الظاهر أن {ا لَبِثُواْ} إشارة إلى المدة السابق ذكرها، وزعم بعضهم أنه إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كما ترى، وقيل إنه تعالى لما قال: {وازدادوا تِسْعًا} [الكهف: 25] كانت التسع مبهمة لا يدري أنها سنون أم شهور أم أيام أم ساعات واختلف في ذلك بنو إسرائيل فأمر صلى الله عليه وسلم برد العلم إليه عز وجل في التسع فقط اه وليس بشيء فإنه إذا سبق عدد مفسرو عطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق فعندي مائة درهم وعشرة ظاهر في وعشرة دراهم وليس جمل كما لا يخفى.
هذا ونصب {تِسْعًا} على أنه مفعول {ازدادوا} وهو مما يتعدى إلى واحد، وقال أبو البقاء: إن زاد يتعدى إلى اثنين وإذا بنى على افتعل تعدى إلى واحد، وظاهر كلام الراغب. وغيره أن زاد قد تتعدى إلى واحد يقال: زدته كذا فزاد هو وازداد كذا، ووجه ذلك ظاهر فلا تغفل، والجمهور على أن {سِنِينَ} [الكهف: 25] في القراءة بتنوين {مِاْئَةِ} [الكهف: 25] منصوب لكن اختلفوا في توجيه ذلك فقال أبو البقاء. وابن الحاجب: هو منصوب على البدلية من {ثلثمائة} [الكهف: 25].
وقال الزمخشري: على أنه عطف بيان لثلثمائة، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز على مذهب البصريين.
وادعى بعضهم أنه أولى من البدلية لأنها تستلزم أن لا يكون العدد مقصودًا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما نزلت هذه الآية {وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلثمائة} [الكهف: 25] قيل يا رسول الله أيامًا أم أشهرًا أم سنين؟ فأنزل الله تعالى: {سنين} [الكهف: 25].
وجوز ابن عطية الوجهين، وقيل: على التمييز، وتعقب بأنهي لزم عليه الشذوذ من وجهين، وستعلم وجهه قريبًا إن شاء الله تعالى، وا نقل في المفصل عن الزجاج أنه يلزم أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة، قال ابن الحاجب: ووجهه أنه فهم من لغتهم أن مميز المائة واحد من مائة كما إذا قلت مائة رجل فرجل واحد من المائة فلو كان سنين تمييزًا لكان واحدًا من ثلثمائة وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قيل ثلثمائة ثلاث سنين فيكون تسعمائة سنة. ويرد بأن ما ذكر مخصوص بما إذا كان التمييز مفردًا وأما إذا كان جمعًا فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعًا في نحو ثلاثة أثواب مع أن الأصل في الجميع الجمع، وإنما عدلوا إلى المفرد لعلة كما بين في محله فإذا استعمل التمييز جمعًا استعمل على اوصل، وما قال إنما يلزم لو كان ما استعمل جمعًا استعمل كما استعمل المفرد فأما إذا استعمل الجمع على أصله في ما وضع له العدد فلا انتهى.
وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع، وجوز الزجاج كون {سِنِينَ} [الكهف: 25] مجرورًا على أنه نعت.
فيها اثنتان وأربعون حلوبة *** سودًا كخافية الغراب الأسحم
حيث جعل سودًا نعتًا لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد، وقال أبو علي: لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعًا وجعل سودًا وصفًا لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيرًا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفرًا وثلاثون قبيلًا.
وقرأ حمزة. والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش. والحسن. وابن أبي ليلى. وخلف. وابن سعدان. وابن عيسى اوصبهاني. وابن جبير الأنطاكي {بِضْعَ سِنِينَ} بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضًا ويرد بما رد به هناك، ولا وجه لتخصيص الإيراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزًا وهو متحقق إذا جر أيضًا وجر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالًا، وثانيهما كونه مفردًا ولكون الإفراد مشهورًا في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال، ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب: إن الأصل في التمييز مطلقًا الجمع كما سمعت آنفًا لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياسًا نظرًا إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في الكشف، وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفردًا منصوبًا كما في قوله:
إذا عاش الفتى مائتين عاما *** فقد ذهب اللذاذة والفتاء
وقد يأتي جمعًا مجرورًا بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا: إن الجمع المذكور فيها قد أجرى مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قومًا لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين، ولم أجد فيما عندي من كتب العربية شاهدًا من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع، وأكثر النحويين يوردون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهدًا لذلك وكفى بكلام الله تعالى شاهدًا. وقرأ أبي {أَلْفَ سَنَةٍ} بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود، وقرأ الضحاك {ثلثمائة سنون} بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون، وقرأ الحسن. وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه {سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم والله تعالى أعلم {لَهُ غَيْبُ السموات والارض} أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب مصدر عنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علمًا ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بالطريق الأولى.
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى، والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عز وجل حقيقة من غيره تعالى.
وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك، ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده؛ ولابن هشام رسالة في ذلك، وأيًا ما كان ففيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه تبارك وتعالى بل من الناس من قال: إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم والخلاف في ذلك معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عز وجل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلًا، ولكونه صار فضلة صورة أعطى حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلًا والفاعل لا يجوز حذفه عندهم، ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها نحو أحسن أن تقول، وهذا الفعل لكونه ماضيًا معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب، قال الرضي: وضعف ذلك بأن الأمر عنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي عنى الأمر كما في حديث: «اتقى الله امرؤ فعل خيرًا يثب عليه» وبان صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد، وبان زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول.
وتعقب بأن كون الأمر عنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به عنى اكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى إنشائي وهو التعجب، ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر، وبأن كثرة أفعل عنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع، وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم، نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه، والإنصاف أن مذهب س في هذه المسألة لا يخلو عن تعسف. ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظًا ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيدًا حسنًا ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كما قال الشاعر:
لقد وجدت مكان القول ذا سعة *** فإن وجدت لسانًا قائلًا فقل
وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س، وأيضًا همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياسًا مطردًا، واعتبر الفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر، ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل التعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علمًا لمعنى من المعاني، وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطًا لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال، وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب، والباء زائدة في المفعول، وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن، ثم إنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة.
وأيضًا نحن نقول أحسن بزيد يا عمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول: معنى خطاب الحسن قد انمحى، وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه، هذا وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية: أبصر بدين الله تعالى وأسمع به أي بصر بهدى الله تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء. وقرأ عيسى {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} بصيغة الماضي فيهما وخرج ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب، والضمير المجرور لله تعالى أي أبصر عباده عرفته سبحانه وأسمعهم، وجوز أن يكون {أبصار} أفعل تفضيل وكذا {أَسْمِعْ} وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير {بِهِ} عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل، ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان، وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيرًا به وسميعًا على أتم وجه وأعظمه {مَّا لَهُم} أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما {مِن دُونِهِ} تعالى: {مِن وَلِىّ} من يتولى أمورهم {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ} في قضائه تعالى: {أَحَدًا} كائنًا من كان ولا يجعل له فيه مدخلًا، وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحدًا من الخلق.
وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار المشاقين له عليه الصلاة والسلام وجعل الآية اعتراضًا بتهديد، وقيل يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض. والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى وليًا، وقيل: يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير الله تعالى فهم لا يقدرون بغير إقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عز وجل والكل كما ترى، ثم لا يخفى عليك أن ما في «النظم الكريم» أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك.
وقرأ مجاهد {وَلاَ يُشْرِكْ} بالياء آخر الحروف والجزم، قال يعقوب: لا أعرف وجه ذلك، ووجه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف. وقرأ ابن عامر. والحسن. وأبو رجاء. وقتادة. والجحدري. وأبو حيوة. وزيد. وحميد بن الوزير عن يعقوب. والجعفي. واللؤلؤي عن أبي بكر {وَلاَ تُشْرِكُواْ} بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهى لكل أحد عن الشرك لا نهي له صلى الله عليه وسلم ولو جعل له عليه الصلاة والسلام لجعل تعريضًا بغيرة كقوله:
إياك أعني واسمعي يا جاره ***
فيكون مآله إلى ذلك، وجوز أن يكون الخطاب له صلى الله عليه وسلم ويجعل معطوفًا على {لا تَقْولَنَّ} [الكهف: 23] والمعنى لا تسأل أحدًا عما لا تعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحدًا عما أخبرك الله تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى:


{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)}
{واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ} ووجه الربط على القراءة المشهورة حسا تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلى الله عليه وسلم ودل اشتمال القرآن عليها على أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه: {واتل} إلخ وهو أمر من التلاوة عنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقًا ولا تكترث بقول من يقول لك {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} [يونس: 15]، وجوز أن يكون {اتل} أمرًا من التلو عنى الاتباع أي اتباع ما أوحي إليك والزم العلم به، وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحى إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحدًا منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي، والمراد بما أوحى إلخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف، وقيل: متعلق بقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْلَمُ بما لَبِثُواْ} [الكهف: 26] أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخبار عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحى إلخ ما تضمن هذا الاخبار، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتاب تعالى.
{لاَ مُبَدّلَ لكلماته} لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما يشاء ويثبت، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل: إن التبديل واقع لقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً} [النحل: 101] الآية، والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها، ومن هنا قال الطبرسي: المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى، لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه. ومنهم من خص الكلمات بالاخبار لأن المقام للاخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر، وقول الإمام: إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلًا توهم لا يقتدي به.
ومن الناس من خص الكلمات واعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحى إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد، والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه: {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة، وقال الإمام في البيان والإرشاد: وأصله من الالتحاد عنى الميل، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرًا، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري:
يا لهف نفسي ولهف غير مجدبة *** عني وما عن قضاء الله ملتحد
ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه، ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلى الله عليه وسلم في أعلى مراقيه، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حرًا عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلى الله عليه وسلم {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] {قَيِّمًا} قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على {الكتاب} وجعله بعض أهل التأويل عائدًا على {عَبْدِهِ} أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافًا عن جنابه وميلًا إلى ما سواه وجعله مستقيمًا في عبوديته سبحانه، وجعل الأمر في قوله تعالى: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] أمر تكوين {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] {وَيُبَشّرُ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 2] وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب {فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفًا} [الكهف: 6] فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلى الله عليه وسلم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض} من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات {زِينَةً لَّهَا} أي لأهلها {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل، وقال ابن عطاء: حسن العمل الإعراض عن الكل، وقال الجنيد: حسن العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به.
وقال بعضهم: أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليه بالحرمة.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا} [الكهف: 9] قال الجنيد قدس الله سره: أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسرى بك ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك.
{إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه: {فَقَالُواْ} حين استقاموا في منازل الإنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة {رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} معرفة كاملة وتوحيدًا عزيزًا {وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10] بالوصول إليك والفناء فيك {فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ فِى الكهف سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه {ثُمَّ بعثناهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا} [الكهف: 21] إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء، ويقال أيضًا: هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ} الايمان العلمي {وزدناهم هُدًى} [الكهف: 13] بأن أحضرناهم وكاشفناهم {وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين، ويقال أيضًا: رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين.
{إِذْ قَامُواْ} بنا لنا {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السموات والارض} مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها} إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 14] كلامًا بعيدًا عن الحق مفرطًا في الظلم، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين، قال ابن الغرس: وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعى على ساق.
وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجيء في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان {وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله} أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوى {فَأْوُواْ إِلَى الكهف} فاخلوا حبوبكم {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ} مطوي معرفته{وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا} [الكهف: 16] ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته، قال بعض العارفين: العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصول إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه {وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ} لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الكفر وجمع الحواس، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانًا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة.
وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراز في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشارقها.
وفي الحديث: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» وقيل: في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى.
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولا يتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17] لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم، وقال ابن عطاء: هم مقيمون في الحضرة كالنومي لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومي منتبهون {وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} أي ننقلهم من عالم إلى عالم؛ وقال ابن عطاء: نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق، وقال آخر: نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل {وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} قال أبو بكر الوراق: مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم.
وقل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ} أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي {لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ} أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي {فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18] كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبًا من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروى عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
{وكذلك بعثناهم} رددناهم إلى الصحو بعد السكر {لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل: إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة، ويقال: مقام الحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضي من الحبيب وطروان فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد عشت دهرًا لا أعد اللياليا
ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} والإشارة فيه أولًا: إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيًا: إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم: {بِوَرِقِكُمْ هذه} فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروى فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثًا: إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأحل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلًا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعًا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم هي جمرات ولكن تطفىء حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعًا: إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم: {وَلْيَتَلَطَّفْ} بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.
وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل: أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئًا من الطعام فليكن لطيفًا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كلما تجد.
لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المؤكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعمًا ويأكل لطيفًا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرًا اتفاقيًا، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} بأحجار الإنكار {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20] لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء الله} إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال: أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه: يا مجنون فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضًا ما فيه، وقيل الآية نهي عن أن يخبر صلى الله عليه وسلم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها.
{واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قيل أي إذا نسيت الكون بإسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} [الكهف: 23، 24] إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سحبانه لك قبل أن تذكره جل وعلا {وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا}
[الكهف: 25] زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرًا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرش لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى.
وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرًا من عباده بلا واسطة في سويعات {لَهُ} تعالى شأنه {غَيْبَ السموات} عالم العلو {والارض} [الحجرات: 81] عالم السفل، ولا يخفى أن عنوان الغيبية إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله؛ ومن هنا قال بعضهم: إنه سبحانه لا يعلم الغيب عنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم، لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم ثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهرًا من مصادمة الآيات.
وإلى الله تعالى نشكو أقوامًا ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته {مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ} إذ لا فعل لأحد سواه تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26] لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12